السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عندي سؤال لو تكرمتم مالفرق بين البلاء والابتلاء؟ مع التوضيح من القرآن الكريم ولكم جزيل الشكر .
والجَواب :
أنّ البعض من أهل العِلْم لم يذكُر فرقاً بين البَلاء والابتلاء ، والبعض ذكرَ فُروقاً ، والحاصل أنّ من خلال تتبّعي لمَعاني البَلاء والابتلاء ، وجدتُ أنّها ألفاظٌ لمصدَرين مُختلفِين في اللغة ، فالبَلاء من المَصدر (بَلا) ، والابتلاء من المَصدر (ابتلَى) ، نعم! ومعانيهِما من القُرآن الكَريم ، فإنّي وجدتُ البَلاء هُو الموضوعْ ، سواءً كانَ خيراً أو شرّاً ، والابتلاء هُو الاختبَار والامتحَان الواقعُ على المكلّفين ، فالبَلاء موضوعُ ابتلاءِ المُكلّفين ، كالذّبح لإسماعيل فُهو موضوع ابتلاء الله وامتحانُه لإبراهيم الخَليل ، ولابنهُ إسماعيل ، عليهما السّلام ، وكذلكَ عذَاب فرعَون لبني إسرائيل فإنّه موضوع ابتلاء الله وامتحانُه لبني إسرائيل ، نعم! وسنذكرُ في هذا بعض الآيات ونُطبّق عليها ذلك الوَجه من التّفريق الذي ذكرنَاه بين البَلاء والابتلاء .
أوّلاً : قال الله تعالى : ((وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ)) [البقرة:49] .
تَعليق : وهُنا تأمّل أنّ البَلاء هُو الموضوعْ ، وهُو التّخليَة من الله تعالى بينَ فرعونَ وبين بني إسرائيل حتّى رحمَهم بموسَى عليه السّلام .
ثانياً : قال الله تعالى : ((وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ)) . [الصافات:104-106] .
تَعليق : وهُنا تأمّل أنّ البَلاء هُو الموضوعْ ، وهُو الوَحي بذبح إبراهيم لابنه إسماعيل .
ثالثاً : قالَ الله تعالى : ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )) [الأنبياء:35] .
تَعليق : وهُنا تأمّل أنّ الفتنَة وهي الخير والشرّ هي البَلاء ، موضوعُ البَلاء ، كالمَوت ، ثمّ إذا تعلقّت بالإسنان فإنّها تُصبحُ ابتلاءً وامتحاناً بذلك البَلاء وتلكَ الفتنَة ، فالله َبتلي العِباد بالبَلاء ، الله يَبتلي العِباد بالفتنَة (الخير أو الشرّ) ، الله يمتحنُ العِباد بالمَوتْ ، هل يصبرونَ أم يجزعونْ ، ولو سقطتَ البَلاء سقطَ الابتلاء ، لأنّ الابتلاء تابعٌ لوجود البَلاء ، فإذا انعدَم البَلاء انعدَم الابتلاء والاختبَار ، وقد وجدتُ هذا في كلامِ أمير البَلاغَة علي بن أبي طَالب صلوات الله عَليه ، فتدبّر كلامَه تجدهُ يجعلُ البلاء موضوعاً للبتلاء ، فالبَلاء هُو في كون الأنبياء فُقراء ، إذ لو لم يكُونوا فُقراء لكانَ النّاس إليهِم أسرَع في الاستجابَة ، ولكنّ البلاء (الفَقر) يحصلُ معه الابتلاء والاختبَار والّمحيص للمُكلّفين هل يتبّعون الأنبياء على عظمَة دعوتهِم أن يكفرونَ بهِم ، تأمّل قول أمير المُؤمنين (ع) وهُو يذكرُ قصّة فرعون معَ موسَى وهَارون وهُما يُهدّدانه بزوَال مُلكِه إن لم يُؤمنْ ، فصغّر من شأنهِم لعدم امتلاكِهم الذّهب والأموَال ، قال (ع) : ((وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ ، وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُ وَ اضْمَحَلَّ الْابْتَلاء ، وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى ، وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ)) [نهجُ البلاغَة] ، نعم! ولو عُدت وتأمّلت قولَه الأخير (ع) ، كلّما كانَت البَلوى أكبَر ، فإنّ الاختبَار (الابتلاء) يكونُ أعظَمْ ، كابتلاء (كاختبَار) إبراهيم (ع) في ابنِه ، حتّى وصفَ الله تعالى ذلكَ الأمْر (بالذّبح) بالبَلاء المُبينْ .
رابعاً : قالَ الله تعالى : ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ )) [محمد:31] .
تَعليق : وهُنا البَلاء هُو الجِهاد ، والابتلاء هُو الامتحَان بفرض الجِهاد وإيجابه على المُسلمين ، فيتمحّص من ذلك الابتلاء والاختبَار المُؤمنين ، مَنْ هُو الصّابر ، من غير الصّابرْ .
خامساً : قال الله تعالى : ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)) [البقرة:155] .
تَعليق : فهذه مواضيع للبَلاء ، الخَوفْ ، والجُوعْ ، ونقص الأموال ، والأنفُس ، والثّمرات ، ثمّ يتبُعها الابتلاء ، فالله تعالى بَلى المُكلّفين بهذه البَلاءات ، ليبتلِي حَالَهم (يختبرَ) صبرَهم ، هل يشكرون أمْ يتسخّطون .
سادساً : قال الله تعالى : ((وإذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ )) [البقرة:124] .
تَعليق : والمَعنى هُنا وإذْ ابتلَى الله إبراهيم بِبَلاءْ ، وإذ امتحنَ الله تعالى إبراهيم بكلمَاتْ ، فما نتيجَة البَلوى (الامتحَان من ذلك البَلاء) ؟!. النّتيجَة أنّ إبراهيم أتمّ ذلكَ الابتلاء والاختبَار ، فاستحقّ الأجر والثّواب . فالكلمَات هي الأوامر والبَلاء ، والابتلاء هُو إيجابُ ذلكَ على إبراهيم (ع) يخبرهُ به الله تعالى .
سابعاً : قال الله تعالى : ((فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ )) [الفجر:15-16] .
تَعليق : وهُنا الخَير بالتّكرمَة والنّعمَة هُو موضوعُ البَلاء ،والابتلاء الذي هُو الامتحَان والاختبَار للمكلّفين من ذلكَ البَلاء ، هُو هلْ يشكُر المكلّف أمْ يكفُر؟!. وكذلك في الآيَة الثّاني فإنّ قلّة الرّزق والفَقْر هي موضوع البَلاء ، والابتلاء الذي هُو الامتحَان والاختَبار للمكلّفين من ذلكَ البَلاء ، هُوْ هلْ يتسخّط الإنسان ويكفُر أمْ يحمد الله ويدعُوه ويشكرُه ؟!.
نعم! بهذا القدر من آيات القُرآنيّة ، وتلكَ التّغليقَات نكتفي في الجَواب على هذا السّؤال ، فالابتلاء تابعٌ للبَلاء ، البَلاء المَوضوع والنّوعْ ، والابتلاء هُو التّكليف أو التّقدير الإلهي على المكلّفين يمتحنهُم الله بذلكَ البَلاء ، هل سينجحون أو يفشَلون ، وهُم قادرون على اجتيازِ ذلك البَلاء ولا شكّ ، نعم! ثمّ كلّما كان البَلاء أشدّ ، كانَ الابتلاء أشدّ ، كانَ الأجرُ والثّواب أعظَم للمُطيعين والصّابرين ، كلّما كانَ البلاء أشدّ (كذبح الوالدِ للولَدْ) ، كانَ الابتلاء أشدّ (على المكلّف بأمرِ الله وتكليفُه أو تقديرهُ عَليه ، كأمرِ الله لإبراهي أن يذبَح ابنه) ، كان الأجرُ والثّواب أعَظَم للمطيعين والصّابرين (كأجر إبراهيم (ع) عندمَا امتثل أمرَ الله تعالى ابتلاءَه لهْ بتلكَ البَلْوى) ، نعم! وكذلكَ أهل الابتلاءات في هذه الدّنيا بالبَلاوى المتعدّة من مرضٍ وَفقرْ وسلبِ أحبّةٍ فإنّ الله سيوفّيهم أجورَهم على صبرهِم في الدّنيا أو في يوم القيامَة ، حتّى يمتّى غير المُبتَلين أنّهم كانُوا من أهل البَلوى ، هذا والله أعلَمْ ، وبهذا تمّ الجَواب والحمدُ لله .
وفّقكم الله .
#الزيدية
#الكاظم_الزيدي
اللهمّ صلّ وسلّم على محمّد وعلى آل محمّد