بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
لابد قبل الخوض في الكلام عن الزيدية وما هي وما أسسها... إلخ أن ننبّه القراء الأكارم بتمهيد ميسر، فنقول:-
لقد عرف المسلمون والمسلمات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدى رسالة، ربه وجاهد بكل الوسائل المختلفة حتى عمَّ الإسلام وكثر رجاله، وعلت كلمته، فبدأت طائفة النفاق في محاولة اختراقه والإفساد فيه؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفضحهم بوحي من الله سبحانه، وما توفي صلى الله عليه وآله وسلم إلا وقد وضع للناس البيان والإحاطة؛ وذلك بجعله علماً فارق بين من هو مسلم ومن هو منافق، فمحب الإمام علي هو المسلم المتمسك بالإسلام وقد كثروا وازدادوا؛ فأطلق على أتباعه بالشيعة فتمثّل الإسلام فيهم، ومن أبغض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فهو منافق وناصبي، ومحاربه هم الناكثون والقاسطون والمارقون، وهي طوائف لا تمثل دين الإسلام الذي أسسه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما كثر الشيعة، وعظم شأنهم، وازداد عددهم بدأ التمزق والإختلاف فيهم كما وقع فيمن قبلهم، وكان لا بد من علم يميز الله به دين الحق كما كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فظهر هنا وبرز وطلع النجم الساطع والبدر الأتم والحسام القاطع إمام الأمة وأفضل بيت النبوة -آنذاك- العلم الفارق بين الحق والباطل مولانا أمير المؤمنين الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
فمن بايع الإمام زيد عليه السلام وتابعه ولم يرفض الجهاد معه سموا "زيدية" ومن ناصره سمي "زيدياً"، ومن خالفه إما من النواصب الذين حاربوه وناصروا الظالمين أو الرافضة -وإن كانوا شيعة- وهم الذين رفضوه وتركوا الجهاد معه، فصار كل من رفض الجهاد مع أئمة الهدى من آل محمد رافضياً، ومن بايع أئمة آل محمد وجاهد معهم كان زيدياً.
فهذا سبب التسمية للزيدية وإلا فهم الذين يدينون بدين الإسلام وعلى منهج أمير المؤمنين علي والحسن والحسين وزين العابدين، فالزيدية يمثلون الإسلام ولا يعني انتمائهم مذهبية ولا تفرقة أبداً.
من هم الزيدية؟
فإذا عرفت ما ذكرناه سابقاً فاعلم أن الزيدية هم الذين بايعوا الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام، وتابعوه، وساروا على نهجه على ممر الأزمان في الخروج على أئمة الكفر والطغيان والولاة الظالمين.
تُجمع الزيدية على مبادئ وأسس راسخة دينية قوية لا يختلفون فيها، فالزيدية متفقون في مسائل الأصول لا يختلفون في ذلك، إذ هي أصول الدين الذي ارتكز عليها أساس الدين، والمخالف فيها مخطأ لا محالة، وهي التي أخذها الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام من الكتاب العزيز، وصحيح سنة جدهم صلى الله عليه وآله وسلم واختص بذلك برواية مذهبه ودينه عن أبيه زين العابدين وعن الإمام الحسين بن علي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو الدين الإسلامي، والرسالة المحمدية، ومذهب العترة النبوية والعلوية، وذلك أن مذهبهم هو القول بالتوحيد للحي القيوم وتنزيه الله-سبحانه وتعالى- عن التشبيه والمثل وعن التجسيم والحلول والرؤية، وعن كل نقيصة، والقول بالعدل لله الحكيم العليم، العدل الذي لا يظلم أحداً من عباده، وأن جعلهم مخيرين لا مسيرين؛ وقد هداه إلى النجدي، وأنه مجاز كل واحد بعمله وفعله، وأن الله بريء من أفعالهم القبيحة... كما نسبه إليه أعداء الله ورسله، ونسبوا كل القبائح لله -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- والقول بصدق الوعد والوعيد، وأن كل صادق في كل ميعاد ، صادق في كل وعيد، وأن الله يبعث من في القبور، فمن أحسن أدخله الحنة ومن أساء أدخله النار، والقول بالنبوة، والقول بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رسول الله بلا فصل، ثم لولديه الحسن والحسين، هؤلاء الثلاثة بالنص، ثم فيمن قام ودعا من أولادهما، وحذا حذوهما، والقول بالخروج على الظالم المعتدي، فهذه أصول مذهبهما، لا يختلف فيه.
هذه هي أصول الزيدية التي لا يختلفون فيها، كما قد بينها الإمام المنصور بالله [في الشافي] بسنده عن أبيه عن جده وحتى بلغ بها الإمام الأعظم زيد بن علي ثم قال: فأي إسناد تراه يا فتى إن كنت ممن يتبع الهدى، وله قصيدة في ذلك.
ونحن نروي مذهبنا إلى كافة أئمة الزيدية ومنهم المنصور بالله عليه السلام بأسانيد عديدة كثيرة وإلى كل مؤلفات مولانا الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام دون أي تغيير ولا تبديل، لا تزال هي «الزيدية» التي سماها الإمام زيد عليه السلام.
هذا وأما الفروع فإن الزيدية لا تتحجر ففتحت باب الاجتهاد للمجتهدين كما فتحت باب الجهاد ضد الظالمين، ولله القائل:
وليس معناه الذي قد غدا
مقلداً أعمى بإظلامه
وليس بالرفع ولا الضم ولا
تأمين والعقد لإبهامه
تلك فروع ما على ناظر
فيها جناح كف عن ذامه
فاعمل به إن كنت من أهله
واطَّرح اللوم للوامه
فبهذه النكت المختصرة يتبين لك خلاصة هذا المذهب الزيدي الشريف الذي مثل الوسطية الحقة، لا إفراط ولا تفريط، كما هو شأن النواصب والروافض، فالزيدية قديماً وحديثاً هي هي، لا فرق بين سابق ولاحق، يتبعون الأئمة خلفاً عن سلف، لإيمانهم أن الأئمة الهداة من آل البيت النبوي هم حجج الله الذين أمر الله بالتمسك بهم، وأما من ادعى أن المتأخرين خالفوا المتقدمين فشنشنة أعرفها من أخزم فهو شأن الناقمين وعادة الثالبين {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره}، وما فعل هذا الناقم الثالب إلا أن يعارض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: «تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض» فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبرنا أن القرآن وأهل البيت لن يفترقا إلى يوم القيامة، وهؤلاء يقولون إن أهل البيت عليهم السلام قد خالفوا القرآن وأن المتأخر قد خالف المتقدم وكيف وهما لن يفترقا حتى يردا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحوض؟! وهم سفن النجاة إلى يوم القيامة، وهم أمان الأرض ونجومها، وهذا هو الحق الذي لا مهرب عنه، ولله در الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام حيث يقول:
كم بين قولي عن أبي عن جده
وأبو أبي فهو النبي الهادي
وفتى يقول روى لنا أشياخنا
ما ذلك الإسناد من إسنادي
خذ ما دنى ودع العبيد لشأنه
يغنيك دانيه عن الإبعاد
والله ما بيني وبين محمد
إلا امرؤ هاد نماه هادي
وعليه فمن تمسك بما ذكرناه فهو زيدي وإن لم يعلن أنه زيدي بل توصل بالبحث والجد والمثابرة حتى قال بهذه الأصول فهو زيدي، وليست الزيدية حصراً على أفراد أو جماعة أو طائفة، فالإمام زيد بن علي هو إمام لكل مسلم ومسلمة من أهل البيت أو من غيرهم شرقاً وغرباً...
هذا وقد قال مولانا الإمام مجدالدين المؤيدي عليه السلام:
وإنما الزيدي من قال بالتـ
ـوحيد والعدل لقيامه
مقدماً مولاى الورى حيدراً
لبسط من يأبى بإرغامه
موافقاً زيداً إمام الهدى
مجدد الدين وأحكامه
يرى جهاد الظالم المعتدي
حقاً ولا يرضى بآثامه
وذكر أنها ليست حزبية بقوله:
أما الذي سماهمُ زيدية
فإمامهم نجم البر والتقى
وتلاه آل محمد من بعده
وفطاحل الأعلام كل محقق
هذا هو القول الصحيح أتت به
كتب الهداية فاسألوها تنطق
وانظر إلى الشافي تجده مصرحاً
عن أهل بيت محمد بتحقق
مهلاً جمال الدين ليست نسبة
حزبية لتعصب وتفرق
هذا وقد أخذت الزيدية أصولها عن الأصول الثابتة التي هي: العقل، والقرآن الكريم -وهو عمدتهم ومرجعهم وقد سمي الإمام زيد بحليف القرآن- والصحيح من سنة الرسول الأعظم صلوات الله عليه وعلى آله المجمعة غير المفرقة، والثابتة بطرق أهل البيت وشيعتهم الصادقين الثقات الأثبات، وإجماع الأمة مهما تحقق، وإجماع أهل البيت عليهم السلام لقوة الأدلة الدالة على ذلك، ويحتجون بما ثبت عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من قول أو فعل -وقد جمع السيد العلامة القاسم بن الحسن السراجي رسالة بين فيها ذلك بعنوان (النبأ اليقين بحجية كلام الوصي عليه السلام- ولهم قواعد وثوابت معروفة منقولة وفيها كتب مزبورة.
دور الزيدية في الإسلام
تعتبر الزيدية هي محور هام في تمثيل دين الإسلام من كل جوانبه، فالزيدية لهم دور كبير في إحياء الشريعة المطهرة باللسان والقلم والسنان، ومواجهة الباطل بكل أشكاله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان سعى أئمة أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم من الزيدية الخُلّص إلى إحياءهما، بل واجهوا الظلمة والحكام الطغاة المجرمين، وضحوا بأموالهم ودمائهم الزكية في سبيل الله؛ لأجل أن يعيش الناس (أهل الإسلام) في حرية تامة، وعبادة لله وحده، وينالوا السعادة، ويأخذوا حقوقهم من الظالمين، ويعود فيئهم عليهم، وتقسم زكاتهم في من فرض الله ذلك لهم، وينتصر المظلوم من الظالم، ويعود الحق إلى أهله، وترسوا العدالة، ويحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله، لهذا كانوا أركاناً للدين، وأعمدة للإسلام، ودعاة إلى الحق والإنصاف، وقد صدق من قال: إذا كانت كل فرقة ومذهب في الإسلام تفتخر بشهدائها فإنه يجب على كل فرق الإسلام أن تفخر بشهداء الزيدية... من هنا لم تكن الزيدية حصراً على أحد.. وقد شهد التاريخ الإسلامي لهم بذلك الجهاد الصادق مع علم كامل، وورع وزهد، وعبادة وتقوى..
كان أئمة الزيدية يتجبنوا المعاصي ويتورعون عن المباح ناهيك عن الحرام، ونأخذ مثلاً لذلك إمام الزيدية بل الأمة الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام حيث قال: ((والله ما كذبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي ، ولا انتهكت لله محرماً)) وصدق الله حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
ويقول الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام:
لا نعرف الخمر إلا حين نهرقها
ولا الفواحش إلا حين ننفيها
أين سيرتنا المشهور طهرتها
باسم المهيمن مجريها ومرسيها
ولقد أقسم أنه لم يعلم أنه عصى الله سبحانه قط، وذكر الإمام المهدي أحمد بن الحسين عليه السلام مصدقاً المنصور بالله ومؤيداً وأنه -أي المهدي- يقسم كذلك كما أقسم المنصور بالله عليه السلام، فأين نحن من هؤلاء العظماء الذين لا يريدون إلا طاعة الله سبحانه وتعالى.
كما سعت الزيدية وعلى رأسها الأئمة منهم إلى توحيد الصف، وجمع الكلمة، والتسامح، ونبذ التكفير والتفسيق للمسلمين إلا بدلالة قاطعة، فتحوا باب الإجتهاد والبحث والنقد العلمي، ولم يتحجروا في ذلك بل نبذوا التقليد، وحملوا الناس على السلامة مهما أمكن ذلك.
واقرأوا كتبهم وسيرهم تعرفون ما قلناه، وإن كثيراً من العلماء المحققين من طوائف المسلمين وفرقهم قد أثنوا على الزيدية وعلى رجالها بل على أئمة الزيدية وعلماء الزيدية وفضلاء الزيدية بل على مذهب الزيدية.
وقد جمع السيد العلامة/ القاسم بن الحسن بن القاسم السراجي كثيراً من أقوال أولائك العلماء والمحققين في كتاب (الدر المنضد في أسانيد آل محمد).
أعلام الزيدية
امتازت الزيدية بأن أعلامها هم أئمة أهل البيت عليهم السلام من أبناء الحسنين -وهم القادة والسادة- وكذلك أكابر علماء الشيعة المرضيين الحفاظ أتباع آل محمد أهل الإخلاص والثقة والدين، وعلى ممر العصور منذ أيام مولانا أمير المؤمنين الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما السلام حتى يومنا هذا دون انقطاع ولله الحمد، ولا يمكن حصرهم، ولا حصر مؤلفاتهم، ولا سرد أعدادهم وفضائلهم ولكن كتب السير والتاريخ والتراجم مليئة بذلك.
هذا ولكل إمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام سيرة خاصة غالباً لمن أراد معرفة شيء من فضائلهم وجهادهم وعلمهم وورعهم... إلخ، ولكن أذكر هنا أبرزهم بعد الإمام زيد: ولده يحيى وأولاد عبدالله الكامل، والإمام الحسين بن علي الفخي، ومن بعدهم ممن لهم دور علمي وجهادي كالإمام القاسم بن إبراهيم نجم آل الرسول، وحفيده الإمام الهادي إلى الحق عليه السلام، والإمام أحمد بن عيسى، والإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش، والإمام أحمد بن سليمان، والإمام المنصور بالله القاسم بن علي العياني وولده، والإمام المهدي أحمد بن الحسين، والإمام المطهر بن يحيى، وولده المهدي محمد، والإمام يحيى بن حمزة، والإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، والإمام عزالدين بن الحسن، والإمام يحيى شرف الدين، والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد، وولديه المؤيد بالله محمد، والمتوكل على الله إسماعيل عليهم السلام، ومن بعدهم حتى يومنا هذا، إلى كثير مما هو من علومهم منثور ومن جهادهم معلوم مشهور. وراجع الحدائق الوردية للشهيد حميد، ومآثر الأبرار للزحيف، والمصابيح وتتمته، واللألىء المضيئة للشرفي، ولوامع الأنوار، والتحف الفاطمية للإمام مجدالدين المؤيدي، وأئمة اليمن للمؤرخ محمد بن محمد زبارة وغيرها.