كان السّؤال :
ما قولكم فيما يُروى من خروج الإمام الحُسين بن علي -عليهما السّلام- للموت ، وكذلك فعلُ أبيه أمير المؤمنين -عليه السلام- ، وهما يعلمان الغيب عن طريق الله بأنّهما سيُقتلان.
– والجواب :
نأتي عليه من خلال عدّة مقدّمات؛ يترتّب بعضها على بعض:
🟥 – المقدّمة الأولى : أنّ الأئمّة -عليهم السّلام- لا يعلمون الغيب عن الله تعالى، وإنّما علمُهم بأحداثٍ مُستقبليّةٍ؛ بلغتهُم عن -رسولِ الله صلوات الله عليه وعلى آله-؛ كما قال أمير المؤمنين -عليه السّلام- عندمَا قام في أصحابه، وأخبرَهم بأحداثٍ وفتنٍ، فقال له رجُلٌ كَلْبِيّ : (( لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ؟!. فَضَحِكَ -عليه السلام- ، وَ قَالَ لِلرَّجُلِ -وَكَانَ كَلْبِيّاً- : يَا أَخَا كَلْبٍ لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ، وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ، وَ إِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَ مَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)) الْآيَةَ ؛ ..، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وآله- فَعَلَّمَنِيهِ وَ دَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي)) [نهج البلاغة] .
🟥 – المقدّمة الثّانية : أنّ الأمرَ لا يخلو -في التتبّع- من ثلاثة أحوالٍ في الثّبوت:
– الحال الأولى : أن يكون الإمام الحسين -عليه السّلام- لم يكُن يعلَم أنّه سيُقتَل؛ فخرجَ داعياً إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر؛ مُجيباً لمن استنصرَه؛ فجاهَد واستُشهِدَ؛ وهذا الحالُ واضحٌ لا لبسَ فيه .
– الحال الثّانية : أن يكونَ الإمام الحُسين -عليه السّلام- كان يعلمُ أنّه سيُقتل في وقعَة العاشر من المحرّم من سنَة (61) هـ، يوم الجمعة ، في أرض كربلاء؛ وهذا لا دليلَ عليه، ومن ادّعى فعليه البيّنة والبُرهان المُفيدُ للعلم، ونحنُ فنستبعدُ ذلك تماماً من وجوهٍ عدّة ، إلاّ أن يكونَ قد قدّرَ الإمام الحُسين -عليه السّلام- في وقتِ المعركَة -عندمَا أصابته الجراحات وتناوشَه أعداؤُه- أنّه سيُقتل؛ فهذا غير مُستبعد، ويُوضّحه الحال الثّالثة.
– الحال الثّالثة : أن يكونَ الإمام الحُسين -عليه السّلام-، كان يعلمُ أنّه سيُقتَل في أرضِ كربلاء، ولكن لم يكُن يَعلمُ زمَنَ ذلك ووقته بالتّحديد، هل أنّ الأمر سيستتبّ لهُ بوفاء أصحابِه، ثمّ يحكُم؛ ثمّ تدور رحا الأيّام؛ فيُقتَل في كربلاء، فقد يكون ذلك في شهر محرّم من سنَة (61) هـ ، أو في شهر رمَضان من سنَة (63هـ) ، أو في شهر ذي الحجّة من سنة (70هـ) ؛ فيكونُ بهذا قد قامَ بتكليفِه الشّرعي في الخُروج والجِهاد الذي افترضَه الله عليه في الكتاب والسنّة؛ من مجاهدَة الظّالمين، والقيام بأمر الأمّة؛ وقد توفّر له النّاصر والمُعين؛ وذلك لمّا كانَ فرضُ الله تعالى على عبادِه هُو العمل بتكليفِهم الشّرعِي؛ لا الفِرار ممّا أخبرَت به الأنبياء؛ فإنّ العمَل بالتّكليف يُبرئ الذمّة عندَ الله تعالى، وسيُحاسبُ الله عليه عباده، ثمّ هُو -عليه السّلام- يظنّ أنّه سيتحقّق على يديه من المصلحَة العائدَة على الأمّة نفعٌ في زمانِه -في حياتِه- ؛ فعندها يكونُ خروجُ الإمام الحُسين -عليه السّلام- محفوفٌ بظنّ الغلبَة والتمكّن، وإن كان يعلم أنّ الخبر قد جاء أنّه يُقتل في أرض كربلاء، ولكنّه لا يعلمُ زمن ذلك بالتّحديد وتأريخه؛ وهذا فلا يرفُع عنه العمَل بالتّكليف؛ لأنّه مأمورٌ بالجهاد ونُصرة الأمّة وقد توفّر له النّاصر والمُعين، وكذلك قال أمير المؤمنين -عليه السلام- : ((وَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِنَّهُمَا لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَ لَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ )) [نهج البلاغة] . وهذا المعنى هُو الذي نحملُ عليه ما جاء في الأخبار من طريق الزيدية وأئمّتهم في الخبر عن رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- في مقتل الإمام الحُسين -عليه السّلام- .
🟥 – المقدّمة الثّالثة : فيما يخصّ مقتل أمير المؤمنين -عليه السّلام-؛ فالقولُ فيه سواءٌ كما قُلنا في الإمام الحُسين -عليه السّلام- ، على أنّه -عليه السّلام- قد رُويت أخبارُ في أنّه أخبرَ أنّه سيُقتل في يومِه؛ إلاّ أنّ ذلك وجهه غالبُ الظنّ لا اليقينُ، لمكان رؤيتِه علامات من صياح الوزّ ونحوها، ويدلّ على أنّ ذلك غالبُ الظنّ؛ أنّى أمير المؤمنين -عليه السلام- كان يُكرّر في مواقفه متى تُخضَبُ هذه -يعني لحيته- من هذهِ -رأسِه وهامتِه- ؛ يتأمّل الشّهادَة؛ عائفاً للدّنيا، وقد كان يتمثّل بالبيتين في الرّحبة والنّاس لا زالوا يُبايعونه -أي قبل شهور بل ربّما سنوات من مقتله- ، والتي منها :
اشددُ حيازيمك للموتِ … فإنّ الموتَ آتيكا
وهذا فمَنطِقُ مَنْ لا يعلمُ يقيناً في أي ساعةٍ يُستشهدُ، ثمّ لمّا خرجَ تلك الليلة من رمضَان، فإنّ ذلك ليس باستقبالٍ منهُ للقتل وتعرّضٍ له؛ وقد كان يقومُ بتكليفِه في أداء الصّلاة بالمُسلمين وهُو إمامُهم؛ فغدرَ به الغادرُ وهُو يُصلّي ملتفتٌ متوجّهٌ لله ربّه، ولو أنّه -عليه السّلام- كَان مُلتفتاً إلى ابن مُلجم -لعنه الله- لمَا أمكنَه من نفسِه تسليماً بلا مُقاومةٍ ولا مُدافعةٍ؛ كما تروي الإماميّة-في لازم قولها- أنّ الإمام الرّضا -عليه السّلام- كان يأكُل العنِب أو الرّمان وهُو يعلمُ أنّه مسمومٌ بلا مُدافعةٍ للضّرر، كما أنّ هُناك مُفارقةٌ أخرَى وهي أنّ الرّواية عن أمير المؤمنين -عليه السّلام- في علمه أنّه سيُقتل تلك الليلة آحاديّة -وتوجيه العلمِ غلبة الظنّ عند التحقيق-، لا تُثمرُ علماً لنُرتّب عليها أحكاماً؛ والقدرُ المُتيقّنُ أنّه كان يعلُم أنّه سيموت مقتولاً شهيداً؛ بعكس ما تتديّن به الإماميّة من حالِ أئمّتهم من أنّهم يعلمون الغيب متى شاؤوا، وأنّهم لا يموتون إلاّ باختيارٍ منهم، وقد عقدَ لذلك الكُليني في أجلّ كُتبهم (الكافي) باباً كاملاً .
نعم، وبهذه المُقدمّات تمّ الجواب والبيان، على أنّ ذلك بعدُ تفصيلاً، لا يقتضيه السّؤال في التّفصيل والإسهاب، والحمدُ لله .
وفّقكم الله
اللهمّ صلّ وسلّم على محمّد وعلى آل محمّد …